25/03/2023 - 23:13

حوار مع غادي الغازي | عمليات الترانسفير في النقب للسيطرة على الأرض

الغازي: "العمل في البحث استغرق ثماني سنوات بسبب الصعوبة في الكشف عن الوثائق في أرشيف الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى أن الضباط أنفسهم عملوا على تبديد آثارهم لأنهم أدركوا بأن الحديث يدور عن عملية غير قانونية".

حوار مع غادي الغازي | عمليات الترانسفير في النقب للسيطرة على الأرض

(Gettyimages)

لم ينته الصراع مع الصهيونية بحسم "الحرب" لصالحها عام 1948 وإقامة دولتها على معظم مساحة فلسطين التاريخية بعد تهجير غالبية أهلها، بما فيها المناطق المخصصة للدولة الفلسطينية وفق قرار التقسيم، بل أن الصراع على الأرض دخل مرحلة جديدة استخدمت القوة المحتلة خلالها مختلف الأساليب من أجل السيطرة على غالبية الأراضي في المناطق التي ظل يسكنها فلسطينيون وإبقاء أصحابها الأصليين على أقل مساحة من الأرض بعد تمرير مخطط إبقاء أقل عدد من السكان.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" أستاذ التاريخ، بروفيسور غادي الغازي، الذي ألقى الضوء على هذه المسألة من خلال بحث معمق لتاريخ السيطرة على الأرض في النقب أجراه في الآونة الأخيرة.

"عرب 48": قمت في الآونة الأخيرة بتقديم "وجهة نظر تاريخية" للمحكمة المركزية في بئر السبع حول عملية التهجير التي قام بها الجيش الإسرائيلي في النقب عام 1951، وهي كما علمنا، ثمرة بحث معمق سينشر قريبا كمقال؛ ما هو الكشف الأبرز في هذا البحث؟

بروفيسور غادي الغازي

الغازي: لسنوات طويلة ادعى الكثير من السكان العرب في النقب، خلال نزاعات الأراضي التي وصلت إلى المحكمة وفي محافل سياسية مختلفة، أنه جرى نقلهم من أرضهم بالقوة من قبل الحكم العسكري مطلع سنوات الخمسينيات، وقد صادفت خلال البحث 20 حالة من هذا النوع، وفي جميع هذه الحالات سألت المحاكم الإسرائيلية، أين الإثباتات؟ أين أمر النقل المكتوب ومن قام بنقلكم بالضبط؟ وجواب الناس كان أنهم لم يتلقوا أمرا مكتوبا، ولذلك قامت المحاكم بإبطال هذا الادعاء.

البحث الذي قمت به يوفر إثباتات لا يمكن التشكيك بها، تؤكد وجهة نظر عرب النقب وتفند وجهة نظر الدولة، حيث قامت الدولة بين أيلول/ سبتمبر وكانون اول/ ديسمبر عام 1951 بنقل مواطنين فلسطينيين بشكل غير قانوني، ومن خلال استخدام العنف والتهديد ومنعتهم من حراثة أرضهم واستخدمت ضدهم القوة العسكرية وكل ذلك بهدف السيطرة على أراضيهم.

"عرب 48": رغم أن هذه الأمور معروفة في الوعي الفلسطيني فإن تأكيدها من خلال وثائق عسكرية إسرائيلية على غاية من الأهمية، ويساهم في تفنيد الكثير من الأكاذيب التي تحاول الصهيونية بثها؟

الغازي: من الواضح أنني لم أسعى لاستبدال صوت المظلومين، فقد كان لي شرف الاستماع إلى الشيوخ والكبار في العراقيب، وفي المحكمة أيضا، إلا أن أهمية البحث تكمن في مجالين، الأول، كما قلت، إن الحديث يجري عن صراع على الحقيقة التاريخية بين طرفين غير متساويين في القوة، حيث تقع غالبية الوثائق التاريخية بأيدي مؤسسات الدولة الكولونيالية. وكما هو معروف فإن جانب مهم من عملية الاقتلاع الصهيونية يكمن في سرقة وثائق المجتمع الفلسطيني، وفي هذه الحالة أخفت الدولة ما حدث وأنكرت ذلك بشكل منهجي.

علاوة على ذلك، فإن الصراع على حقيقة ما جرى في الخمسينيات مهم أيضا لبحث موضوع النكبة المستمرة، لأنه في هذه الحالة قامت الدولة بعملية نقل لمواطنين رغما عنهم، بصورة سرية وغير قانونية.

كما تمكنت من الكشف في البحث أن عملية النقل من مكان إلى آخر في أنحاء النقب أريد منها دفع عملية التهجير، حيث تأمل الجيش الإسرائيلي أن يغادر الناس حدود الدولة بإرادتهم.

في المجال الثاني، يدور الحديث حول سؤال له تداعيات على الصراع الدائر على الأرض، وهذا مرتبط بيوم الأرض. لقد نجح جزء من سكان النقب العرب من البقاء على أرضهم، بعد أن تحول جزء كبير منهم إلى لاجئين، لكن هناك جزء ثالث ومهم تم إجلائهم من أراضيهم، حيث قامت الدولة بمصادرتها بواسطة قانون الأراضي من عام 1953، وهو واحد من قانوني سرقة الأراضي الكبرى في تاريخ دولة إسرائيل، حيث اشترط لمصادرة تلك الأراضي، عدم وجود أصحابها عليها في الأول من نيسان/ أبريل 1952، ومن هنا تنبع أهمية عمليات نقل السكان عام 1951 كونها مكنت سرقة الأراضي بشكل "قانوني".

"عرب 48": كيف نشأت فكرة البحث؟

الغازي: البحث نشأ من خلال نضال العراقيب، فقد جئت إلى العراقيب في المرة الأولى في يوم الأرض عام 2002، وعدت إلى هناك عام 2010 وما زلت على تواصل معها، سمعت من الناس عن تاريخهم، سمعت من الشيخ صياح أبو مديغم، ومن د. عواد أبو فريح، ومن نوري العقبي، ومن رفيقي المحامي شحدة بن بري وأيضا من أناس آخرين مثل المرحوم إسماعيل أبو مديغم الذي توفي خلال مرحلة النضال.

الكثير من المتطوعين اليهود وصلوا إلى المكان لمساندة أهالي العراقيب في وجه الظلم، وفي النهاية تطوعت لبحث قضية التهجير لكي أحضر "وجهة نظر تاريخية" للمحكمة في بئر السبع التي ما زال التداول في قضية العراقيب بين أروقتها يتواصل منذ سنوات.

العمل في البحث استغرق ثماني سنوات بسبب الصعوبة في الكشف عن الوثائق في أرشيف الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى أن الضباط أنفسهم عملوا على تبديد آثارهم لأنهم أدركوا بأن الحديث يدور عن عملية غير قانونية.

"عرب 48": هل كانت العملية معلومة ومعلن عنها خلال المرحلة ذاتها التي نفذت خلالها؟

الغازي: العملية كانت سرية بالكامل، فقد منع الحكم العسكري من الناس حرية الحركة وقام بفرض رقابة على الرسائل وحاول منع كل طريقة للنشر عن العملية، لكن بالرغم من ذلك فإن ثلاثة مشايخ هم سليمان العقبي، وعامر الطلالقة ومحمد الافينش بعثوا رسالة للنائب إميل حبيبي في حينه والأخير كسر حاجز الصمت في الكنيست.

الجيش الإسرائيلي أعد الجواب، وكان يتسحاق رابين بين الذين عملوا على الموضوع، وفي هذه الرواية قاموا بإخفاء كل شيء تقريبا، من حيث استخدام العنف والتهديد والهدف المتمثل بالسيطرة على الأراضي، وعندها رد رئيس الحكومة بن غوريون على إميل حبيبي في الكنيست مدعيا أن الناس غادرت بإرادتها، وبقيت تلك هي الرواية الرسمية حتى اليوم.

"عرب 48": ذكرت موشيه ديان والدور الذي لعبه في هذه العملية.. هل "نقل البدو" جاء لأغراض أمنية كما هو الادعاء الشائع؟

الغازي: كان ذلك أحد الكشوفات المهمة للبحث. فقد كان ديان قائدا للمنطقة الجنوبية وكان هو المسؤول المباشر عن نفي أهالي المجدل الفلسطينيين إلى قطاع غزة، واعتقد أنه يستطيع في النقب أيضا "حل المشكلة. وقد عرف بشكل مكشوف حتى النهاية هدف العملية وهو الاستيلاء على 60 ألف دونم من الأراضي الخصبة في شمال النقب بواسطة نقل السكان العرب إلى الشرق، نحو منطقة حورة وشرقها، والتي تعاني من نقص كبير في المياه وظروف حياة صعبة، وهكذا كتب " نقل البدو إلى أراض جديدة من شأنه أن يلغي حقهم كأصحاب الأرض" وتحولهم إلى مستأجرين لأرض الحكومة.

ديان تمسك طبعا أيضا بالادعاء الأمني الذي كان مجرد تضليل، لكن أضاف أن نقل البدو إلى شرقي النقب، على الحدود مع الضفة الغربية، سيخلق مشكلة أمنية لأن علاقتهم مع الضفة ستتقوى، وذلك جيد لأنه سيسمح بنفي البدو إلى الضفة الغربية عندما تسنح الفرصة، وهنا تكمن العلاقة بين النفي وتشديد الضائقة على الفلسطينيين وبين محاولة السلطات استكمال ما قامت به في الـ48 حتى دون ظروف حرب.

"عرب 48": قصة العراقيب هي أيضا جزء مهم من تاريخ العرب في النقب ومن قضية القرى مسلوبة الاعتراف؟

الغازي: يمكن القول إن العراقيب هي طرف جبل الجليد، ونضالها يمس بكل النقب وسكانها دفعوا ثمنا غاليا لقاء نضالهم العنيد، لكن نضالهم مهم أيضا لأنه خلال هذا النضال تم الكشف عن الوثائق التي تمس آلاف كثيرة من سكان النقب البدو.

العراقيب كانت فقط جزءا بسيطا من حملة نقل السكان، حيث كانت خطة السلطات تتمثل بنقل 5150 شخصا، أي ما يعادل 40% من السكان العرب في النقب في ذلك الوقت، لكن في الواقع فإن الدولة نجحت في الحملة السرية من عام 1951 بنقل 2150 شخصا. تخيل كم شخصا تمس هذه القضية اليوم؟

"عرب 48": إذن، كيف نتج الفرق بين تهجير 5150 إنسان وبين تهجير 2150 إنسان؟

الغازي: هذا بالضبط هو الموضوع أنه رغم توازن القوى فإن مخططات الدولة حققت نجاحا نسبيا فقط، فلا يمكن الاستهتار بالمقاومة الفلسطينية للصهيونية حتى في ظروف الحكم العسكري، وفي ظروف النقب أيضا الذي كان معزولا تماما وواصل الجيش الإسرائيلي استخدام العنف العلني هناك، سنين طويلة بعد قيام الدولة.

حقيقة أن السلطات خططت لسرقة 100 ألف دونم ونجحت في الاستيلاء على 60 ألف دونم فقط، وتهجير، وخططوا لتهجير 5150 إنسان ونجحوا بتهجير 2150 إنسان فقط نابعة من عناد الأهالي وصمودهم.

ضباط الحكم العسكري يعترفون في الوثاق التي عثرت عليها أنهم لم يتوقعوا مثل هذه المقاومة، فالناس فعلوا كل شيء، أضاعوا الوقت، واختبأوا، ورفضوا الانتقال قبل أن يصلوا إلى حالة اللا خيار.

"عرب 48": ماذا جرى للتهجير؟

الغازي: المقاومة لم تتوقف، الناس رفضوا حراثة الأرض التي جرى نقلهم إليها، وفي ظروف النقب هذا يعني المخاطرة بالجوعان لأن فترة الأمطار قصيرة جدا، لقد خاطروا بالجوع وبعد سنة وقع جفاف شديد وبعد نقلهم عانوا عطشا شديدا، تلك جرائم حرب.

الناس حاولوا العودة إلى أراضيهم، حيث كان شارع الخليل- بئر السبع بمثابة حدود داخلية وكل حاول من المهجرين اجتيازه غربا والعودة إلى ارضه كان يتعرض للعقاب، ورغم ذلك كان هناك من الإفلات من سيطرة الحكم العسكري والعودة إلى أرضه.

على سبيل المثال عائلة أبو فريح نقلت شرقا إلى منطقة حورة، وقد وجدنا أن الجيش الإسرائيلي حصل على معلومات بأن سويلم أبو فريح نجح في كانون اول/ ديسمبر 1951 من الهرب من حورة لكي يعود إلى أرض العائلة.

الدولة لم تسمح للبدو بالعودة إلى أراضيهم لكن قدرتها على المراقبة والسيطرة كانت محدودة والناس استمروا في الصراع على الأرض في النقب في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تواصل بشتى الطرق، هذا ما افدته من الناس في بودروس وبلعين الذين كان لي شرف المشاركة في مظاهراتهم وهذا ما تعلمته في النقب.

التعليقات